سورة النمل - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)}
{أَمْ} هي المنقطعة: نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره، فقال: {مَالِيَ لاَ أَرَى} على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك، ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له. ونحوه قولهم: إنها لإبل أم شاء، وذكر من قصة الهدهد أنّ سليمان حين تم له بناء بيت المقدس تجهز للحج بحشرة، فوافى الحرم وأقام به ما شاء، وكان يقرّب كل يوم طول مقامه بخمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة، ثم عزم على السير إلى اليمن فخرج من مكة صباحاً يؤم سهيلاً؛ فوافى صنعاء وقت الزوال؛ وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضاً حسناء أعجبته خضرتها، فنزل ليتغدّى ويصلي فلم يجدوا الماء، وكان الهدهد قناقنه، وكان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فيجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب ويستخرجون الماء، فتفقده لذلك، وحين نزل سليمان حلق الهدهد فرأى هدهداً واقعاً، فانحط إليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء، وذكر له صاحبه ملك بلقيس، وأنّ تحت يدها اثنى عشر ألف قائد تحت كل قائد مائة ألف وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر، وذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه، ثم قال لسيد الطير وهو العقاب: عليَّ به، فارتفعت فنظرت، فإذا هو مقبل فقصدته. فناشدها الله وقال: بحق الذي قوّاك وأقدرك عليَّ إلا رحمتيني، فتركته وقالت: ثكلتك أمك، إنّ نبي الله قد حلف ليعذبنك؛ قال: وما استثنى؟ قالت: بلى قال: أوليأتيني بعذر مبين، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرّها على الأرض تواضعاً له، فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه، فقال: يا نبي الله؛ اذكر وقوفك بين يدي الله؛ فارتعد سليمان وعفا عنه؛ ثم سأله. تعذيبه: أن يؤدّب بما يحتمله حاله ليعتبر به أبناء جنسه. وقيل: كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمسه. وقيل: أن يطلي بالقطران ويشمس. وقيل: أن يلقى للنمل تأكله. وقيل: إيداعه القفص. وقيل: التفريق بينه وبين إلفه. وقيل: لألزمنه صحبة الأضداد.
وعن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد. وقيل: لألزمنه خدمة أقرانه.
فإن قلت: من أين حل له تعذيب الهدهد؟ قلت: يجوز أن يبيح له الله ذلك. لما رأى فيه من المصلحة والمنفعة؛ كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع؛ وإذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر له من أجله إلا بالتأديب والسياسة: جاز أن يباح له ما يستصلح به.
وقرئ: {ليأتينني} و {ليأتينن} والسلطان: الحجة والعذر.
فإن قلت: قد حلف على أحد ثلاثة أشياء: فحلفه على فعليه لا مقال فيه، ولكن كيف صح حلفه على فعل الهدهد؟ ومن أين درى أنه يأتي بسلطان، حتى يقول والله ليأتيني بسلطان؟ قلت: لما نظم الثلاثة (بأو) في الحكم الذي هو الحلف: آل كلامه إلى قولك: ليكونن أحد الأمور، يعني: إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح، وإن لم يكن كان أحدهما، وليس في هذا ادّعاء دراية، على أنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحيٌّ من الله بأنه سيأتيه بسلطان مبين، فثلث بقوله: {أَوْ لَيَأْتِيَنّى بسلطان مُّبِينٍ} عن دراية وإيقان.


{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)}
{فَمَكَثَ} قرئ: بفتح الكاف وضمها {غَيْرَ بَعِيدٍ} غير زمان بعيد، كقوله: عن قريب. ووصف مكثه بقصر المدّة للدلالة على إسراعه خوفاً من سليمان، وليعلم كيف كان الطير مسخراً له، ولبيان ما أعطي من المعجزة الدالة على نبوّته وعلى قدرة الله تعالى {أَحَطتُ} بإدغام الطاء في التاء بإطباق وبغير إطباق: ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوّة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاء له في علمه، وتنبيهاً على أنّ في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفاً له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة، والإحاطة بالشيء علمها: أن يعلم من جميع جهاته لا يخفى منه معلوم. قالوا: وفيه دليل على بطلان قول الرافضة إنّ الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه {سبأ}. قرئ بالصرف ومنعه. وقد روي بسكون الباء.
وعن ابن كثير في رواية {سبا}، بالألف كقولهم: ذهبوا أيدي سبا. وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فمن جعله اسماً للقبيلة لم يصرف، ومن جعله اسماً للحيّ أو الأب الأكبر صرف. قال:
مِنْ سَبَإ الْحَاضِرِينَ مَأْرِبَ إذ *** يَبْنُونَ مِنْ دُونِ سَيْلِهِ الْعَرِمَا
وقال:
الُوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَي سَبَإ *** قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جِلدُ الْجَوَامِيسِ
ثم سميت مدينة مأرب بسبإ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث، كما سميت معافر بمعافر بن أدّ. ويحتمل أن يراد المدينة والقوم. [(بنبأ يقين)] والنبأ: الخبر الذي له شأن. وقوله: {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} من جنس الكلام الذي سماه المحدّثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ، بشرط أن يجيء مطبوعاً. أو يصنعه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى وسداده، ولقد جاء هاهنا زائداً على الصحة فحسن وبدع لفظاً ومعنى. ألا ترى أنه لو وضع مكان بنبإ بخبر، لكان المعنى صحيحاً، وهو كما جاء أصح، لما في النبإ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال.


{إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)}
المرأة بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها، وقد ولده أربعون ملكاً ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت على الملك، وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس. والضمير في {تَمْلِكُهُمْ} راجع إلى سبإ، فإن أريد به القوم بالأمر ظاهر، وإن أريدت المدينة فمعناه تملك أهلها.
وقيل في وصف عرشها: كان ثمانين ذراعاً في ثمانين وسمكه ثمانين.
وقيل ثلاثين مكان ثمانين، وكان من ذهب وفضة مكللاً بأنواع الجواهر، وكانت قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودرّ وزمرّد، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق.
فإن قلت: كيف استعظم عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ قلت: يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان، فاستعظم لها ذلك العرش. ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء، كما يكون لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون مثله للملك الذي يملك عليهم أمرهم ويستخدمهم. ومن نوكي القصاص من يقف على قوله: {وَلَهَا عَرْشٌ} ثم يبتدئ {عظِيمٌ وَجَدتُّهَا} يريد: أمر عظيم، أن وجدتها وقومها يسجدون للشمس، فرّ من استعظام الهدهد عرشها، فوقع في عظيمة وهي مسخ كتاب الله.
فإن قلت: كيف قال: {وَأُوتِيتْ مِن كُلِّ شَيْء} مع قول سليمان {وَأُوتِينا مِن كُلّ شَيْء} [النمل: 16] كأنه سوّي بينهما؟ قلت: بينهما فرق بين؛ لأن سليمان عليه السلام عطف قوله على ما هو معجزة من الله، وهو تعليم منطق الطير، فرجع أوّلاً إلى ما أوتي من النبوّة والحكمة وأسباب الدين، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا، وعطفه الهدهد على الملك فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها فبين الكلامين بون بعيد.
فإن قلت: كيف خفي على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطه وبين بلدها قريبة، وهي مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب؟ قلت: لعل الله عز وجل أخفى عنه ذلك لمصلحة رآها، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9